في ذكرى الحسن ابن الهيثم

 

مع الغرفة المظلمة/الكاميرا في مبنى كلية الفنون.

 

في احد المهمات الفوتوغرافية التي قمت بها في مادة تاريخ فن الصورة، قمت ومجموعة من زملاء الدارسة ببناء/صنع كاميرا ضخمة تصل إلى المتر وسبعين سنتيمتر طولا والمتر عرضا. والغرض من هذه التجربة التي تأتي من ضمن مقررات دراسة تاريخ التصوير وفن الصورة هو إنتاج صورا فوتوغرافية على أوراق حساسة للضوء وإنتاج رسومات (ما يتعارف عليه باللوحات التشكيلية) للمشاهد/المناظر التي تقع أمام الكاميرا.

وحتى لا يحدث لبس على البعض حول تاريخ التصوير الضوئي، اقول: أن بدايات محاولات فهم آلية الإبصار/العين البشرية تختلف عن بدايات اكتشاف المواد الحساسة للضوء ومحاولات صنع كاميرا. وهنا موضوعان مختلفان في فترات زمنية مختلفة. فمحاولات صنع مواد حساسة بدأت في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، أو بالأصح تحققت في تلك الفترة. ومحاولات فهم آلية الإبصار/ العين البشرية بدأت من ألاف السنين من العصر اليوناني حتى عصر ابن الهيثم في القرن الحادي عشر الميلادي. وما قمنا به، أنا والزملاء، هال وكيري، في هذه التجربة هو خليط من كل التجارب المتعلقة بفهم عملية عمل العين وانعكاس الصورة وعمل الكاميرا والتجارب والاستعمالات التي دخلت فيها الكاميرا/الغرفة المظلمة كأداة رسم ثم كأداة تصوير ضوئي.

التجربة

أولا صنعنا/بنينا غرفة مظلمة من الكرتون وبثقب صغير على احد الجوانب ليكون بمثابة العدسة التي ينفذ منها الضوء إلى داخل الغرفة ويقع على الجهة الأخرى من الكاميرا/الكرتون/الغرفة المظلمة. وحتى لا يختلط الأمر على من يفهم أن الغرفة المظلة هي المعمل الكيميائي (دارك رووم) فهنا استعمل مصطلح الغرفة المظلمة يعني الكاميرا سواء بحجمها الحديث المحمول باليد أو الحجم الضخم الذي قد يصل إلى عشرات الأمتار. وهذه الكاميرا هي نوع مما يعرف بكاميرا اوبسيكيورا (Camera obscura) أو كاميرا ذات الثقب (pinholecamera ). ورغم ان هذا المصطلح (بينهول كاميرا) هو الأكثر استعمالا في العصر الحالي، إلا أن استعمالي للمصطلح الغرفة المظلة يعود لسببين، الأول الحجم. ثانيا، أن بداية مفهوم (البينهول والكاميرا الابسيكيورا) بدأ من الغرفة المظلمة. وثالثا وهو الأهم ان الحسن ابن الهيثم هو أول من اطلق هذا الاسم بقوله “البيت المظلم”. وأستعمالي لكلمة الغرفة لأنها في الواقع “غرفة” أكثر منها بيت بالمفهوم الحرفي للكلمة. 

 

ثانيا: استعملنا الكاميرا/الغرفة المظلمة لإنتاج صورا فوتوغرافية عن طريق الدخول إلى داخل الكرتون/الكاميرا/الغرفة المظلمة وتعريض أوراق حساسة للضوء أمام الضوء الداخل من فتحة العدسة/الثقب. أيضا أنتجنا رسومات/أعمال تشكيلية عن طريق رسم/تخطيط الصورة المنعكسة داخل الغرفة/الكاميرا ومن ثم إكمال اللوحة وتلوينها خارج الكاميرا/الغرفة المظلمة

ثالثا: قمنا بنقل الكاميرا داخل الحرم الجامعي لالتقاط الصور وعمل الرسومات للمشاهد التي تقع أمام فتحة الكاميرا/الغرفة المظلمة. وأصبحت هذه الغرفة هي الكاميرا التي نصور ونرسم بها. وهذه الكاميرا/الغرفة المظلمة هي بكل بساطة مفهوم الكاميرا الحديثة: صندوق مغلق يحتوي فيلم حساس للضوء أو حساس الكتروني يصله الضوء عن طريق فتحة العدسة بتعريض معين.

 

ولكن ما علاقة هذا بابن الهيثم؟

حتى لا يلتبس الأمر على أحد.. فالعالم الحسن ابن الهيثم أو كما لقب ( أمير الضوء) لم يكن يحاول اختراع كاميرا ومواد حساسة للضوء. بل كان يحاول ويدرس آلية الإبصار من الناحية الفيزيائية والتشريحية. كان يدرس العين البشرية وكيف ينتقل الضوء واللون من الجسم أو الأجسام التي تقع أمام العين إلى العين ومن ثم إلى العصب والدماغ وفهم وإدراك اللون والضوء والمعاني. وكتابه الشهير كتاب المناظر كتاب علمي وعملي مبني على تجارب عملية اعتمد فيها على خبراته في مجالات كثيرة. الكتاب بشكل عام طويل جدا قياسا على تجاربه، ولكنه كتاب أحدث نقلة تاريخية في علم الإبصار والضوء في زمنه. ويسجل للعالم الإسلامي ابن الهيثم انه كان أول من أدرك بالتجربة أن الضوء ينتقل من الأشياء إلى العين وليس كما كان يعتقد أن الضوء يخرج من العين ليصدم بالأشياء لتبصرها العين. وبقدر ما تبدو تجارب ابن الهيثم بسيطة في عصرنا الحالي إلا أن مجرد تخيل تلك التجارب قبل ألف سنة أمر يدعو للتقدير والاعتزاز بالعصر الذهبي للحضارة الإسلامية حين كانت أوروبا تعيش عصور الظلام.

 وكنت قد قمت بقراءة بعض أجزاء كتاب المناظر قبل وبعد تجربة صناعة الكاميرا التي أتحدث عنها والتي تمت شهر أوجست 2009م أي بعد ما يقارب الألف سنة من تجارب ابن الهيثم. والنسخة التي وجدتها من الكتاب متوفرة على الانترنت مليئة بالأخطاء الطباعية لدرجة مربكة. ومن المحزن ان المتوفر على الانترنت عن ابن الهيثم وعن كتابه باللغة الانجليزية أكثر بكثير مما هو موجود باللغة العربية.

أيضا المصطلحات التي استعملها ابن الهيثم في وصف تجاربه تبدو غريبة مقارنة بالمصطلحات الحديثة العربية والانجليزية. ومع ذلك، فبعض الأسماء العربية لأجزاء العين تم نقلها للانجليزية. وقد قرأت في مجلة العربي العدد 613 ديسمبر 2009م في مقالة لـلكاتب الجزائري، ميلود بن علي  قوله، أن كلمة الكاميرا(الانجليزية) أتت من، “القمرة” الكلمة ذات الأصل العربي التي تعني: الحجرة شديدة الظلام.” وأنا هنا انقل بالحرف ما قاله (ميلود)، رغم إنني حاولت التحقق من هذه المعلومة ولم أجد ما يثبت ذلك. وهذا لا يعني هذا أنها معلومة صحيحة أو مغلوطة. يمكن مراجعة قاموس (مريام ويبستر) الذي يقول أن أصل الكلمة يعود إلى اللغة اللاتينية ومنها يعود إلى الإغريقية!!

وعودة إلى الكاميرا.. فحين قررنا أنا وزملاء الدراسة أعضاء المجموعة أن نختار اسما لهذه الكاميرا، اقترحت اسم العالم الحسن ابن الهيثم كعرفان بالجميل وتقديرا له. ولأننا نعيد بشكل مبسط بعض تجاربه. ولأنه أول من اخترع فكرة صناعة غرفة مظلمة والدخول إليها ودراسة آلية الإبصار. الطريف في الأمر كما يبدو في الصورة هو “الشماغ” على قمة الكاميرا، وهو أمر ليس له علاقة بـ (سعودة) أو (خلجنة) الحسن ابن الهيثم. فكل ما في الأمر انه بعد أن بنينا الكاميرا وكتبت اسم الحسن باللغة العربية عليها وقمنا بنقل إحدى رسوماته البيانية الشهيرة عليها التي توضح فكرة دخول الضوء إلى العين البشرية، عرضت فكرة الشماغ على زملاء المشروع كتزيين للكاميرا وكعامل ربط بين الاسم المكتوب بالعربية والشماغ  ليس إلا.

alhacen by Musleh Jameel 2a

((داخل الكاميرا في الحرم الجامعي لالتقاط الصور))

النتائج

بعد أن بنينا الكاميرا، تجولنا بها في الحرم الجامعي لالتقاط ونسخ الصور التي تمررها لنا فتحة العدسة المصنوعة من النحاس. ورغم بساطة الكاميرا ووجود العيوب الكثيرة في جسدها نتيجة بساطة المواد المستخدمة (كرتون) إلا أنها أنتجت لنا أعمال ضوئية وتصويرية جيدة. وكما قال مدرس المادة، “انظروا كيف يمكن أن ننتج صورا بدون دفع مئات الدولارات وبدون كاميرات فاخرة!!”.

والاهم من ذلك أننا عشنا تلك التجارب الأولى للحسن ابن الهيثم. وعشنا تجارب فنانين عصر النهضة الأوربية التي يقال أن هذا الشكل من الكاميرات/ الغرف المظلمة استخدمت من قبل بعض فناني عصر النهضة في إنتاج تلك الأعمال الشهيرة التي لا تزال تدهش دارسي الفنون عن مدى دقتها من ناحية التفاصيل أو المنظور (راجع بعض أعمال ليوناردو دافنشي) وهذا موضوع أخر اعمل على البحث فيه لعله يرى النور قريبا.

هذه التجربة الفيزيائية الفنية المدهشة المتمثلة في استعمال هذه الكاميرا/الكرتون/الغرفة المظلمة لإنتاج أعمال فنية لا يمكن أن توصف متعتها إلا من خلال تجربتها بشكل شخصي. ويكفي الاستمتاع بتلك الصورة الملونة المنعكسة والمقلوبة داخل الغرفة المظلمة  أو مجرد تخيل ابن الهيثم قبل ألف سنة يقوم بنفس العمل ليدرس العين والضوء. أو تخيل فنانو عصر النهضة الذين استعملوا هذه الأداة لإنتاج رسومات لا تزال تدهشنا إلى الآن.

كل هذه التجارب تستحق الاحتفال والمشاركة. ولمن يتساءل عن كيفية الحصول على صور ضوئية أو مدة التعريض للورق الحساس أو الفيلم..فهذا موضوع أخر يعتمد كليا على التجارب العملية، التجربة والخطأ، على الرغم من انه كان بالإمكان تقدير فتحة العدسة وحساسية الورق ومن ثم تقدير مدة التعريض. ويمكن مشاهدة بعض الأعمال (رسم وتصوير) التي أنتجناها بالكاميرا تظهر على الجدار خلف الكاميرا وعلى جسد الكاميرا. وهي نتائج بسيطة ولكن ذلك لان الهدف التعليمي من هذه التجربة لم يكن إنتاج أعمال ذات جودة بقدر ما كان الهدف بناء الكاميرا وإدراك آلية استخدام وعمل هكذا اله.

 كتاب المناظر لأبن الهيثم

وبما إننا في مرحلة الحديث عن فكرة الحسن ابن الهيثم حين دراسته للضوء وكيف تبصر العين المبصرات،  فأجدني ملزم بأن أدرج بعض المقتطفات من كتابه المناظر. يقول ابن الهيثم عن تجاربه، “وقد تبين من جميع ما بيناه أن البصر إنما يحس بالضوء واللون اللذين في سطح البصر من صورة الضوء واللون اللذين في سطح المبصر التي تمتد من المبصر إلى البصر في الجسم المشف المتوسط بين البصر والمبصر، وأن البصر ليس يدرك شيئاً من الصور التي ترد إليه إلا من سموت الخطوط المستقيمة التي تتوهم ممتدة بين المبصر وبين مركز البصر فقط التي هي أعمدة على جميع سطوح طبقات البصر، وذلك ما أردنا أن نبين.”

وهذا ما يبدو في الرسم البياني الذي نقلناه من تجارب ابن الهيثم إلى احد جوانب الكاميرا. أيضا، من خلال قراءتي لهذا الكتاب لمست مدى المصداقية والمهنية التي مارسها ابن الهيثم في البحث حيث يذكر في كتابه  فضل وحق الآخرين في المعلومات التي وجدها في تجارب من سبقوه ويضيف من تجاربه التي لا زالت تدرس في عالم البصريات فيزيائيا وفيسيولوجيا. ويمكن البحث باسم ابن الهيثم باللغة الانجليزية (Alhazen) للإطلاع على مقالات وبحوث قديمة وحديثة لازالت تعتمد أو تشير إلى تجارب أبن الهيثم.

 وقبل أن اختم هذه المقالة التقريرية عن هذه التجربة انقل بعضا من المقاطع من كتاب المناظر لابن الهيثم. وكما ذكرت فأن النسخة المتوفرة على الانترنت بها بعض الأخطاء الطباعية لذا نقلت ما وجدته بدون تغيير..

مقاطع من كتاب المناظر

يقول، “وقد تبين أن البصر إذا قابل المبصر فإنه يتشكل بين المبصر وبين مركز البصر مخروط رأسه مركز البصر وقاعدته سطح المبصر، فيكون بين كل نقطة من سطح المبصر وبين مركز البصر خط مستقيم متوهم هو عمود على سطوح طبقات البصر، ويكون المخروط مشتملاً على جميع هذه الخطوط، ويكون سطح الجليدية قاطعاً لهذا المخروط لأن مركز البصر الذي هو رأس المخروط من وراء سطح الجليدية. وإذا كان الهواء الذي بين البصر وذلك المبصر متصلاً فإن الصورة تكون ممتدة من ذلك المبصر على سمت هذا المخروط في الهواء الذي يحوزه هذا المخروط في طبقات البصر المشفة إلى الجزء من سطح الجليدية الذي ينفصل  هذا المخروط، ويكون المخروط مشتملاً على جميع السموت التي بين البصر والمبصر التي يدرك منها البصر صورة ذلك المبصر، وكون الصورة مرتبة في هذا المخروط كترتيبها في سطح المبصر، ويكون الجزء من سطح الجليدية الذي ينفصل ذا المخروط يشتمل على جميع صورة المبصر الذي عند قاعدة هذا المخروط، وتكون الصورة مرتبة في هذا الجزء من سطح الجليدية بالخطوط المستقيمة الممتدة بين المبصر ومركز البصر التي من سموا يدرك البصر تلك الصور كترتيب أجزاء سطح المبصر، لأن هذه الخطوط تقطع هذا الجزء من سطح الجليدية ويقطعه كل واحد منها على نقطة واحدة فقط.”

يقول في مقطع أخر، “ثم عن هذا الإحساس الذي يقع عند الجليدية يمتد في العصبة الجوفاء، ويتأدى إلى مقدم الدماغ، وهناك يكون آخر الإحساس. والحاس الأخير الذي هو القوة النفسانية الحساسة تكون في مقدم الدماغ، وهذه القوة هي التي تدرك المحسوسات، والبصر إنما هو آلة من آلات هذه القوة، وغاية البصر ان يقبل صور المبصرات التي تحصل فيه ويؤديها إلى الحاس الأخير، والحاس الأخير هو الذي يدرك تلك الصور ويدرك منها المعاني المبصرة التي تكون في المبصرات. والصورة التي تحصل في سطح الجليدية تمتد في سطح الجليدية، ثم في الجسم اللطيف الذي في تجويف العصبة إلى أن تنتهي إلى العصبة المشتركة، وعند حصول الصورة في العصبة المشتركة يتم الإبصار، ومن الصورة التي تحصل في العصبة المشتركة يدرك الحاس الأخير صورة المبصر.”

 

Share:

10 thoughts on “في ذكرى الحسن ابن الهيثم

  1. إبراهيم السحيباني |

    أبحرت في هذا الموضوع بعيداً يا مصلح، أصلحك الله .. قضيتُ وقتاً ليس باليسير في البحث والاستزادة، وقد أُطرد من عملي بسبب ذلك!
    الله يفتح عليك يا عم 🙂

  2. مصلح جميل |

    أهلين أبراهيم.. ادري والله الموضوع طويل جدا. وفيه كم مقطع تم حذفها.. يعني حماس للكتابة أحيانا ليس إلا..:) والتجربة كانت شيقة كذلك.. ولا تطرد من عملك رجاءا حتى لا اشعر بتأنيب الضمير. تحياتي لك ابراهيم

  3. ابراهيم الخالدي |

    بس البسام عامل شغل كبير…….

    بالتوفيق

  4. مصلح جميل |

    من شان كذا اذا بتسافر برا المملكة خذ معك كم شماغ.
    وبالمناسبة أنا قاعد أكتب عن كلايد بوتشر ورحلتنا الى معرضه معمله في فلوريدا.
    كن بخير

  5. ابراهيم الخالدي |

    و الله حمستني على المقال….

    عجل عليه.

  6. سلطان |

    ابن الهيثم الذي صنع الكامر هم من وين؟

  7. مصلح جميل |

    الاخ سلطان.. لم أفهم سؤالك؟
    تحياتي

  8. mouna27 |

    موضوع رائع انا منى من الجزائر الله يوفقك يا اخي

  9. حنين تربوي |

    بجد بجد مقال متعوب عليه
    وجهد ومعلومات رائعه
    وتعاملكم مع الامر من كل جوانبه اكثر من رائع
    ومما اعجبني كثيرا هو تسمية الكاميرا باسم العالم المسلم العربي ابن الهيثم وكذلك ادارة الموضوع كامل

  10. أم محسن |

    السلام عليكم ورمضان كريم. والله يا أخي أنا مبهورة بهذا العقل وهذه الأصالة، وحب البحث الجاد، وأتمنى أن يقتدي بك أبنائي، حتى أنني ناديت عليهم وقلت لهم تحميسا لهم، شوفوا ماذا عمل هذا الشاب المسلم والمجهود الذي بذله. لقد أجدت بالفعل وبارك الله فيك.

Leave a Reply

Your email address will not be published.Please enter all required information below!