من (لا) يعرف هذا الرجل؟

Oryx massacre

يكشف مقطع الفيديو الذي نشرته الوطن لشابين سعوديين قاما بارتكاب مجزرة بحق حيوانات برية مهددة بالانقراض، الكثير حول ثقافة مجتمعنا. بدأ من فعل التصوير والتوثيق إلى ثقافتنا البيئة، إلى ردة الفعل حول ذلك الفيديو.

صحيفة الوطن نشرت الفيديو في مادة صحفية احترافية وجعلت مثار جدل إعلامي وشعبي ورسمي. أرادت “الوطن” أن تمارس دورا “سلطويا إعلاميا” في الإشهار بالفاعل ومساعدة الجهات الرسمية في الوصول إليه وخصصت (شريطا) إعلانيا باللون الأحمر يحتوي على صورة لأحد الشابين بجانبها عبارة تقول (من يعرف هذا الرجل؟)، في محاولة لحث القراء للمشاركة في إلقاء القبض على الجاني. وتحليل فعل الوطن ومهنيته ليس المعني بهذه المقالة. مع ذلك تبدو التعليقات على موقع الوطن جديرة بتحليلها بشكل موجز.

تعليقات القراء وردود الفعل

فـ أشبه ما يكون بالسيل من التعليقات، تلقت الوطن من عدد غير قليل من القراء توبيخا لما اعتبرته (التعليقات/القراء) إهمالا للأهم والانشغال وإشغال القراء بالتافه. وفي المقابل استبشر بعض القراء بهكذا فعل لنشر صورة (المجرم) وطالبوا بنشر صور المتورطين في قضايا وجرائم أخرى. وكنقيض لهؤلاء شعر اليائسون من أي فعل تنويري أو سلطوي للصحافة بأن نشر صورة شاب “متهور طائش” كما وصفوه، فعل استقوائي إعلامي على “الغلابا”. بل حاول البعض ادلجة الجريمة وتسطيحها وتوظيفها بطرق مختلفة لعل أكثرها فجاجة أن يقول البعض انه شاب جائع يأكل مما احل الله له من صيد. وكل هذا الخليط من التعليقات هي في حقيقتها ملخص “مختصر موضوعي” كما يطالب موقع الوطن المعلقين بـ (نرجو الاختصار في حدود 50 كلمة مع تحري الموضوعية).

السعودي وتقنية الاتصال الهاتفي

وبعيدا عن موقع الوطن والتعليقات، يجب أولا تأمل البطل الحقيقي لكل هذه القصة وهو جهاز الهاتف الجوال (المدمج بكل أشكال التقنية التي تتيح التسجيل البصري والصوتي والبث) والذي أتاح لـ السعوديين فرصة طارئة للتوثيق والاتصال والإخبار. فأصبح سعودي اليوم، الذي لم يعرف قبل عقدين إلا قناتين إخباريتين وإذاعتين، صحفيا ومصدرا للخبر وصانعا له. لقد جعل الجوال بتقنياته المتقدمة السعودي إنسان مهدد وتحت سلطة التقنية والآخرين وإنسان مهدد ذو سلطة على الآخرين. وبين الحالتان الحادتان، هناك من لم يدرك بعد أن هكذا جهاز هو أشبه بالنافذة لـ يطل على العالم منها ويطل كل العالم عليه حتى لو كان في مساحة لا تتجاوز عدة أمتار في اكبر صحراء في العالم (الربع الخالي).

 ثلاث دقائق سينمائية

الفيديو الذي سجله الشابان بهاتف احدهما الجوال ولمدة ثلاث دقائق أشبه ما يكون بمقطع من فيلم سينمائي تجريبي. حركة الكاميرا العفوية التوثيقية ترمينا في المشهد. حوارات الإبطال بين الجاد والهزلي، بين العفوي والتمثيلي. موسيقى في الخلفية تخفت في أحيان وتبرز في أحيان على الصورة. موقع التصوير موقع حالم، رمال ذهبية وسيارة موجهة جاهزة للانطلاق، شابان في حالة احتفال. ملابس ملطخة بالدماء بشكل صارخ وكأنها أزياء مصنوعة لهكذا حدث، وهي تقترح لنا المطاردة والخطورة والموت والنجاة. الضحايا/الغزلان مصفوفة على الأرض كجنود قتلى في ساحة معركة. البنادق وما لها من دلالات ذكورية و فروسية.

يقترح كل هذا الخليط السمعبصري توثيق نهاية مطاردة دموية والأبطال يحتفلون بالعقبات التي تجاوزوها من “كفر تعرض للبنشر” إلى اخذ المشاهد إلى تفاصيل الدهشة لدى الأبطال رقبة الغزال وجماليات خلقها، “شوف شوف كيف الله سواها؟!” كما يقول احد الشابين. حوارات إخبارية/ابلاغية موجهة للمشاهد في الأساس ولكنها (أي الحوارات) ممسرحة بطريقة احترافية حيث ينقل لنا الشابان تفاصيل الأحداث التي لم نشاهدها وهي (أي من الحيوانات “سبب البنشر”؟ ومن هو المسئول منهما عن اثر ذلك الرصاص على رقبة الغزال. هما بالتأكيد يعلمان كل تلك التفاصيل ولكنهما يمثلان من اجل مشهد درامي ووثائقي أكثر واقعية وتشويق. هما أيضا لا يواجهان المشاهد فهو (المشاهد) المعني بالتوثيق حاضرا في ذهنية المصور وحركة الكاميرا، ولكنه لم يحضر بشكل مباشر كـ طرف موجه له هذه الفيديو. فأصبحنا كمشاهدين نطل على المشهد بدون دراية من الأبطال.

*استعمال كلمة ابطال لا تعني أعطاء فعلهم في البطولية بقدر ما هو مصطلح ادبي/درامي لشخصية العمل الرئيسية بغض النظر عن كونها تجسد الشر أو الخير.

زوايا التصوير والصورة الفوتوغرافية لا المتحركة

زوايا التصوير تجعلنا/المشاهدين نرى وننتقل بحركة طبيعية كما لو أننا في المشهد ذاته، نعد الغزالان مع المصور خلف الكاميرا. نقفز إلى صندوق السيارة مع البطل لنعد الضحايا من المها. تصبح الكاميرا هي عين المشاهد في اغلب الأحداث. ثم في مشهد درامي اقرب إلى الصورة الفوتوغرافية يجلس احد الشابين أمام صف الغزلان ببندقيته وبحركة ثابتة ينظر للصيد/القتلى وكأنه ينتظر مصور فوتوغرافي وليس مصور فيديو لتوثيق تلك اللحظة للتاريخ ويدرك المصور الحاجة لهكذا لقطة فوتوغرافية حيث يتجمد كل شيء في الإطار فيتراجع المصور للخلف لالتقاط زاوية أوسع لكامل المشهد تشمل الغزلان والسيارة والبطل والبندقية والصحراء.(الدقيقة1:50)

الموسيقى

الموسيقى الشعبية مشحونة بالرومانسية فهي تقترح السفر والترحال والغربة والشجن والصحراء ذلك الفضاء المفتوح على المجهول يجعلنا نعيش مغامرة محفوفة بالمخاطر وبلذة معاينتها في ذلك الشكل التوثيقي المصنوع باحترافية عالية سواء كان بوعي أو لا وعي. حتى في مسألة التباين بين الموسيقى ومشاهد الدم لا يمكن فصل هكذا ممارسة عن ممارسات صناع الأفلام السينمائية حيث تحضر الموسيقى في بعض الأفلام ليس لزخرفة المشهد أو تجميله بقدر ما هي مضادة له، لتخلق خليط من المشاعر المتناقضة بين ما يرى وما يسمع بين العين والأذن.. مع ذلك، هذا الخليط السمعبصري المتضاد في هذا الفيديو لا يمكن تحميله الكثير من الدلالات والقراءات السيكولوجية، إلا انه بدون ادن شك دلالة واضحة لفكر وثقافة هؤلاء الشابين فهما كما يبدو من (الحوارات والحالة النفسية والأداء التمثيلي) يعيشان حالة مزاجية عالية من السعادة والتفاخر ولذة الانتصار..والرومانسية رغم الجريمة القانونية والبيئية.

 لماذا يوثقان جريمتهما؟

الفيديو التوثيقي (الحوار، الموسيقى، مكان التصوير، حركة الكاميرا، زوايا التصوير) فعل -على ما يبدو- غير واعي بكمية التأثير الذي ستخلقه هذه الثلاث دقائق! ولكنها ثلاث دقائق مكثفة جدا لا اعتقد ان من صنعها يدرك انها قد تجلب كل هذه المشاهدة العالية على موقع اليوتيوب والصخب الإعلامي الذي أحدثته والتعليقات والقراءات على موقع جريدة الوطن الالكتروني. ولكن، فعل التوثيق فعل حديث في المجتمع السعودي شجعته ثقافة مجتمع يريد الظهور ووجد أداة تجعله يشارك ويتفاعل ويصنع خبرا. فعل التوثيق مع هذه التقنية فعل فيه من الاعتباطية والجهل الكبير بالإمكانيات الاتصالية والقيمة الخبرية/الإعلامية لأي شيء يخرج من هذا المجتمع. ايضا هي ممارسات لا تدرك ان حدود الشخصي والخاص تلاشت مع كميات وتنوع وسائل الاتصالات وحداثتها.

وكثير من الأحداث في السنوات القليلة الماضية تم توثيقها بأجهزة جوال مشابهة وكثير لاقت أصداء شعبية وإعلامية، ورسمية (إنقاذ غريقة حائل، مشاهد سيول جدة، فيديو برجس..) رغم التباين بين ظروفها ومقاصدها ولكنها تعطي تلك الصورة البانورامية عن فكر التوثيق المرئي الذي اتاحته –تحديدا- الاجهزة الجوالة.

وتسجيل الشابان لهذا الفيديو يمكن إدراجه إما كرغبة توثيق البطولة والذكريات لرغبة نفسية في تمديد فترة الشعور بالبطولة ولذتها! وفي الحالة الثانية تبدو كرغبة تسجيل حضور ومادة تقدم لهما قيمة اجتماعية، أو كما قال أكثر من 17 قارئا في التعليقات على موقع جريدة الوطن بأن الغرض من تسجيل الفيديو هو “المهايط “. والحالة الثانية هي الأكثر قربا للواقع حسب القراءة أعلاه. وهي الحالة التي كان ينشدها الشابان، التعرف عليهما وعلى بطولتهما في دائرة تمجد هكذا فعل “رجولي”.

ثقافتنا البيئة: كيف يصبح التيس ثروة وطنية؟

 وإذا كانت الحالة التي دعت الشابان لتصوير جريمتهما هي فعل (مهايطي) فلدينا، بناءا على فعل الجريمة وتصويرها مشكلة ثقافية في فهمنا واحترمنا للبيئة والقانون والبطولة والفروسية والدين والتقنية والإعلام. وكل حالة لا تقل خطورة عن الأخرى. ولكن، بما أن الأكثر حضورا هنا هي الحالة البيئية فواقعنا السعودي هو الأكثر فقرا من ناحية الوعي البيئي. فالدعم المخصص لحماية البيئة كما ذكر رئيس تحرير الوطن “ميزانية هيئة حماية الحياة الفطرية في بلد مترام كالمملكة 120 مليون ريال” 600 مليون الامارات! وبغض النظر عن الدعم المادي والإدراك الرسمي لقضية حماية الحياة البرية والفطرية فأن مناهجنا ومفردات حياتنا اليومية تخلو من أي معنى تربوي أو جمالي أو اقتصادي أو ثقافي للحيوانات البريئة كما هو الحال، في قطر، كمثال، (الخطوط القطرية وشعارها المها العربي)، الإمارات ( المها العربي على العملة الإماراتية). لذا لا غرابة أن بعض من المعلقين على موقع صحيفة الوطن اعتبروا ما رأوه في الفيديو من مها وغزلان مجرد تيوس! وسواء كان هذا الوصف الذي أطلقه البعض على الغزلان ساخرا أو جاهلا فهو لا يقل غرابة عن فهمنا لمعنى أن تكون تلك الحيوانات ثروة، حينما ترد كلمة الثروة كوصف لمثل تلك الحيوانات حين الحديث عن الحياة الفطرية.

هل كل “الحقيقة” في هذا الفيديو

هذا الفيديو هو فعل ممسرح أو مشهد أخير لقصة طويلة لم نشاهدها! أي انه (فاتنا) الحدث الحقيقي/الاكشن! ولكنه فتح لنا نافذة لنطل منها كمواطنين وكمسئولين على (كم متر مربع) في الوطن. فتح هذا الفيديو تلك النافذة التي أراد منها الشابان أن يطلا منها على كم فرد من “ربعهم”، فأطل العالم عليهم منها. وعلى بطولتهما وكثير من البطولات –التي هي خزي في حقيقتها- لا تحدث لولا لذة التوثيق والتصوير والتمجيد و(المهايط)! ويظل هذا الفيديو الذي رمى الكثير من السعوديين على طرف الربع الخالي من بدلهم حيث انتهك القانون واغتصبت “الثروة” وشنع بها من اجل لذة ورغبة ذاتية أنانية دليلا على أننا أمام قضايا سلوكية وتربوية وثقافية وقانونية خطيرة. حتى عنوان مقطع الفيديو “تحدوا المحمية” أمر يدل على ثقافة تطالب وتشجع على الخروج على القانون.

صورة الرومانسي البطل أم المجرم مهرب الحشيش؟

أخيرا، إذا كان لدى الشابين أداة لتسجيل صورة بكل أشكالها لتسويق صورة بطولية ورومانسية فقد خانتهما ثقافتهما في إدارة لعبة تلك الأداة وإمكانياتها. فمن رغبة أن “يعرف” الآخرون هذا “الرجل” كبطل، أصبح معروفا كمجرم. وتحولت البطولة إلى جريمة. وتحول إثبات البطولة/الفيديو إلى إثبات جريمة. وتحولت الصور الملتقطة في الأساس من اجل تسجيل “معرفة” ايجابية تضيف قيمة اجتماعية للشاب الرومانسي الفارس.. أصبحت صورة تسوقه كمجرم. لقد وضع ذلك الفيديو صورة الشاب الاجتماعية العالية التي كان ينشدها إلى مكانها الطبيعي الوضيع ووسع دائرتها وسلط عليها الضوء. فبدلا من أن يسوق له الفيديو كما كان يحلم ليقال من يعرف هذا البطل.. أصبح مجرما صورته تقول ” من لا يعرف هذا المجرم”.

مقالات ذات صلة: صور المجرمين

 

 

Share:

5 thoughts on “من (لا) يعرف هذا الرجل؟

  1. ابراهيم الخالدي |

    هذا الله يسلم من وست فرجينيا كان عندنا و اصله رد نك. و اذا رجعت لتاريخه راح تلاقية من ايرلاندا.

    يبغالي اخلي واحد من الرد نك الي في وست فرجينيا يعرف عليه و يجبه. تحياتي للرد نك.

Leave a Reply

Your email address will not be published.Please enter all required information below!