صورة فتاة المصعد لروبرت فرانك

 

 صورة فتاة المصعد لروبرت فرانك..ذلك الشيء العميق في داخلي

صورة فتاة المصعد. تصوير روبرت فرانك 1959

صورة فتاة المصعد. تصوير روبرت فرانك 1959

 مصلح جميل

أول مرة أشاهد فيها صورة لـ (روبرت فرانك) كانت ضمن محاضرة لمدرس ومصور أمريكي يتحدث فيها عن تجربته في التصوير ويعرض بعضا من صور المصورين الذين تأثر بهم، ثم عرض واحدة من اشهر صور المصور السويسري ( يهودي هاجر بعد الحرب العالمية الثانية إلى أمريكا) روبرت فرانك. صورة فرانك لأمريكيين في عربة قطار تمثل مرحلة تاريخية كاملة من حياة أمريكا. حين كانت العبودية ثم التفرقة العنصرية حاضرة في الحياة الأمريكية على مدى مئات السنين. لدهشتي من تلك الصورة بدت لي كأنها من فيلم سينمائي أو صورة ممسرحة. فالترتيب في القطار يمثل الترتيب التسلسلي للمجتمع الأمريكي: حيث السيد الأبيض ثم زوجته ثم أطفاله ثم العبد ثم العبدة! هذه الصورة بكل حقيقتها تمثل الحياة الأمريكية إلى ما قبل الستينات من القرن الماضي. هذه الصورة أيضا أتت على غلاف كتاب روبرت فرانك ( الأمريكيون)، الذي احتوى على مجموعة من الصور التوثيقية الصحفية التي التقطها فرانك في رحلته لمدة سنتين عبر أمريكا.

من تلك المحاضرة بحثت عن صور روبرت فرانك، ولكني اكتشفت أن الكثير من صوره الفوتوغرافية ليست من تلك الصور التي يمكن إدراك قيمتها وفلسفتها وجمالياتها من مشاهدتها فقط بدون قراءة قصصها وتاريخ التقاطها ومن ثم دراسة التاريخ الأمريكي لمعرفة “ما المدهش في صوره”. وهذا الفعل بالمناسبة هو من أصعب عمليات التثقف الضوئي. فمن يشاهد تلك الصورة بدون معرفة تاريخ العبودية والتفرقة العنصرية (والتي كان من ضمنها التفرقة في المرافق العامة ومنها وسائل النقل) في أمريكا وتاريخ التقاط ومكان الصور لن يدرك قيمتها. وبالمناسبة لقد بدأت أول حركات العصيان المدني لقوانين التفرقة العنصرية ضد السود في وسائل المواصلات!

كتاب روبرت فرانك. الامريكيون
كتاب روبرت فرانك. الامريكيون

ويجدر ذكر اعتزاز فرانك بصوره –وهي تستحق ذلك من وجهة نظري لقيمتها التوثيقية والجمالية- انه اعتبر صوره أرقى من صور انسل آدمز ساخرا من أعمال انسل آدمز بأنها ليست إلا محاولات لوزن تعريض السماء مع الرمل معتبرا أعمال آدمز مجرد بوست كاردز!

غير تلك الصورة المشهور لفرانك لا اذكر ان صورة أخرى أدهشتني، ربما لأنني لم اقرأ قصص بقية الصور. قبل عدة أيام فقط، استمتعت مجددا بصورة من صور فرانك، وهي صورة ” فتاة المصعد”. والمناسبة التي جعلتني أجد هذه الصورة هي الاحتفال الخمسين بكتاب فرانك ” الأمريكيون” الذي سيطوف عدد من المتاحف الأمريكية خلال هذه السنة. صورة “فتاة المصعد” هي صورة لفتاة أمريكية كانت تعمل في مصعد فندق في ميامي بيتش، التقطها فرانك عام 1959م. ويقول عنها الكاتب جاك كيرواك، الذي رافقت نصوصه وكتاباته كتاب فرانك المصور:

“فتاة المصعد الصغيرة الوحيدة التي تنظر بحسرة للأعلى، محاطة بأرواح ضبابية. ما اسمها وما عنوانها؟”

والمفارقة الجميلة التي أعطت لتلك الصورة روحا جديدة وقصة جديدة وأجابت على سؤال (جاك كيرواك) بعد عدة عقود أن الفتاة التي أصبحت عجوزا الآن شاهدت نفسها بالصدفة في الصورة أثناء زيارتها لمعرض يحتوي على صور فرانك. أي أنها ومنذ أربعين عاما وصورتها تطوف العالم في كتاب فرانك لم تكن تعلم إلا قبل عشر سنوات بالصدفة حين زارت متحف في كاليفورنيا يضم صور فرانك، تقول  شارن كولونز/Sharon Collins ” وقفت مبحلقة في تلك الصورة لمدة خمس دقائق، لا ادري لماذا، لاكتشف أنها صورتي!!”

الآن شارن كولونز، العجوز ذات العينان الواسعتان وتلك النظرة الحائرة تزور المعرض الاحتفالي بالذكرى الخمسين في سان فرانسيسكو-كاليفورنيا، وتقول عن ذلك أيضا، “قرأت خبرا عن المعرض في صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكال وكانت الصورة المرافقة للخبر صورتي! أخبرت زوجي وأبنائي فقالوا لابد أن تذهبي إلى المعرض..”

وفي سؤال لها عن ما إذا كانت تذكر تلك اللحظة التي التقط فيها فرانك الصورة قبل خمسين عاما، تقول “أتمنى أنني استطع تذكر تلك اللحظةـ ولكن بكل أسف لا اذكر، كثير من السياح كانوا يحملون كاميرات ويلتقطون الصور.”

وعندما قلت في مقدمة هذه القراءة أن صور فرانك من الصور التي يجب قراءة تاريخها لإدراك جمالياتها وقيمتها، فهذه الصورة دليل على ذلك، فبدون معرفة أن الفتاة ذات دخل محدود وتعمل في احد أكثر الأماكن غلاء وجذبا للسياح وفي فترة الخمسينات وفي وظيفة فتاة مصعد، لا يمكن ان تكون ذات أهمية، ليس ذلك فقط بل ما قالته السيدة العجوز عن تلك الصورة هو ما أضف لها البعد الجمالي والإنساني.

فسؤال جاك كيرواك الذي طرحه قبل خمسين عاما عن اسم وعنوان تلك الفتاة لم يعد سؤالا بدون إجابة بعد أن كشفت كولونز عن شخصيتها، ولكن هل صدق الكاتب كيرواك في وصف الفتاة بالوحيدة؟ تقول في إجابة لهذا السؤال في لقاء إذاعي،  ” في تلك المرحلة كنت بحاجة إلى عمل حين كان يذهب أصدقائي إلى المخيمات الصيفية، ومن يعرفني يعلم أن لدي ابتسامة واسعة وضحكة كبيرة، ولكن روبرت فرانك و جاك كيرواك شاهدا شيء لا يشاهد عامة الناس. ذلك الشيء عميق في داخلي لا يمكن أن يعرفه إلا من يكون قريب مني.”

بعد نصف قرن، شارون تقف في وضع تمثيلي لذلك المشهد. صورة توضيحية لـ أيان بدقهام
بعد نصف قرن، شارون تقف في وضع تمثيلي لذلك المشهد. صورة توضيحية لـ أيان بدقهام
Share:

2 thoughts on “صورة فتاة المصعد لروبرت فرانك

  1. نوفه |

    واو اعشق قصص الصور صورة فرانك جدًا رائعه

    اذكر اني تابعت قصة فتاة افغانية جميلة جدًا صورها احد المصورين الأمريكيين

    في حرب السوفييت و كانت محجبة و عيناها خلابه بلون أخضر تعكس اشعة الشمس

    و عرضت هذه الصورة على صفحات جريدة الرياض و بعد سنين عديدة

    في الحرب الأخيرة على افغانستان عاد المصور بحثًا عنها و وجدها عجوز قد تجعد وجهها

    و أخذ الوهن منها كل مأخذ و عرض صورتها حيث لا زالت تملك تلك العينين الجميلة

    شكرًا جزيلًا لك

  2. مصلح جميل |

    شكرا لتلعليقك. الصورة التي تتحدثين عنها هي للمصور الامريكي المشهور ستيف ماكوري. وهي احد أشهر الايقونات في عالم التصوير. ولدي مقال سانشره قريبا عن هذا المصور. يمكنك الاطلاع على قصة الصورة من موقع مجلة الناشيونال جيوكرفيك. http://ngm.nationalgeographic.com/2002/04/afghan-girl/index-text

    وهنا موقع المصور: http://www.stevemccurry.com/main.php
    تحياتي

Leave a Reply

Your email address will not be published.Please enter all required information below!